المعجزة الطبية في فصل صفاء عن مروة
راشيل بيوكانان
كانت الحالة هي الأندر لعيب خلقي قلما يحدث، وهو التصاق التوائم من جهة الرأس!
تمكنت بي بي سي من الكشف حصريا عما جرى خلال سلسلة من العمليات الرائدة بأحد المستشفيات البريطانية لفصل الاختين صفا ومروة.
في صالة العمليات يحتشد طاقم طبي يقارب العشرين فردا يعملون جميعا وكأنهم رجل واحد.
يجري العمل بسلاسة وبحركات جميعها محسوبة دون أن يبدر ما يدل على توتر أو قلق بل أن الأنامل والأيادي تباشر بحرص مهماتها واحدة تلو الأخرى.
غير أن ما يجري ليس عملية معتادة، إذ تظهر الأضواء الباهرة لصالة العمليات كتلة مدثرة هي في الواقع جسدا طفلتين هما صفا ومروة الملتصقتين عند الرأس، وقد انكشف مخاهما أثناء انهماك الجراحين في عملية فصل شبكة معقدة من الأوعية الدموية المشتركة بينهما.
ولكن سرعان ما يتلاشى هدوء صالة العمليات وسكونها بإنذار يطلقه أطباء التخدير.
فالدم من مخ صفا لا ينساب بشكل صحيح بل ينتقل إلى أختها.
إذ يسبب ذلك ضغطا اضافيا على قلب مروة لتصبح حالتها غير مستقرة بشكل خطير.
يصدر أطباء التخدير الأوامر في صالة العمليات ويُبلِّغون الجراحين بحالة الصغيرتين وفق المؤشرات التي تظهر عندهم بينما ينهمكون في محاولة إيصال المريضتين إلى وضع مستقر.
يقول أحدهم: “أعتقد أن الصدمة بالكهربائية أصبحت ضرورية”.
تثبّت المجسات على صدر مروة استعدادا لذلك، بينما يرفع كبير الجراحين كلتا يديه كإشارة تحذير وينسحب للخلف بينما ينتظر الجميع.
لو فقدوا مروة فربما فقدوا صفا أيضا.
حياة الأسرة في باكستان
أنجبت زينب بيبي سبعة أطفال قبل أن تحمل بتوأمها، وقد وضعتهم جميعا في البيت وكانت تعتزم أن تضع توأمها هذه المرة في البيت أيضا.
ولكن حين أظهر فحص الموجات الصوتية وجود مشكلة نصحها الأطباء بضرورة اللجوء للمستشفى لتضع وليديها.
كانت فترة عصيبة بالنسبة للأسرة، فقبل شهرين من الولادة توفي زوج زينب بالسكتة القلبية.
كذلك حذرها فريق الولادة الطبي باحتمال أن يكون التوأم ملتصقا ولكن لم يذكروا منطقة الإلتصاق.
ولم يبد أن أحدا يعي مدى المضاعفات التي قد يحملها المستقبل.
في السابع من يناير/كانون الثاني 2017 ولدت زينب توأمها بعملية قيصرية في مستشفى حياة آباد في بيشاور على بعد 50 كيلومترا من منزلها في شمالي باكستان.
حينها قيل للأسرة إن الطفلتين بصحة جيدة.
ولم تلتق زينب بوليدتيها فور الولادة إذ لزم أن تتعافى من الجراحة أولا.
كان محمد سادات حسين، جد الطفلتين، أول من عرف أن الصغيرتين ملتصقتين بالرأس وهي الحالة الأندر بين حالات الالتصاق القليلة أصلا.
وصل الجد إلى قسم الولادة بالمستشفى حاملا الحلوى للممرضات تهنئة بالوليدتين كما جرت العادة.
وكان ما زال في حداد على ابنه المتوفى واختلطت مشاعره عند رؤية حفيدتيه، إذ يقول: “كنت سعيدا لرؤيتهما بينما أفكر ماذا عساي أن أفعل بهما وهما ملتصقتا الرأس؟”
مضت خمسة أيام قبل تعافي زينب بما يكفي لتلتقي بوليدتيها، وقد حملوا إليها صورة لهما كي تستعد نفسيا.
ولكنها تقول إنها أحبت البنتين ما أن رأتهما.
“كانتا جميلتين. شعرهما جميل وبشرتهما بيضاء. لم أفكر حتى في كونهما ملتصقتين. لقد رزقني الله بهما”.
سُميت إحداهما صفا والأخرى مروة على اسم الصفا والمروة في مكة.
وبعد شهر من الولادة خرج التوأمان من المستشفى ووافقت الأسرة على السعي لفصلهما إذا كان ذلك ممكنا.
عرض مستشفى عسكري إجراء العملية ولكن رجح مسؤولوه أن تموت إحدى البنتين جراء ذلك فرفضت الأم المجازفة بأي منهما.
وجرى بحث خيارات أخرى، وحين بلغت البنتان من العمر ثلاثة أشهر أتيح للأسرة الإتصال بجراح أعصاب الأطفال أويس جيلاني الذي يعمل بأحد أشهر مستشفيات الأطفال في العالم، مستشفى غريت أورموند ستريت في لندن.
وكانت المصادفة أن جيلاني نفسه من مواليد كشمير القريبة من مسقط رأس الأسرة وقد وجد ما يجمعه بالطفلتين.
وبعد الاطلاع على صور الأشعة للطفلتين رأى الجراح إمكانية فصلهما بأمان على أن تجرى العملية قبل عامهما الأول للحصول على أفضل النتائج.
حينها بدأ السباق مع الزمن.
قبل أغسطس/آب 2018 حصلت الأسرة على تأشيرات دخول المملكة المتحدة ولكن لم يتوفر لهم بعد التمويل اللازم للعمليات التي تجرى على نفقة المريض ولا يتكفل بها التأمين الصحي البريطاني، ولم يكن جيلاني قد تمكن إلا من جمع القليل من المال المطلوب لتسديد التكاليف الطبية.
بلغت البنتان 19 شهرا من العمر أي أكثر بكثير من السن الذي يحبذه المستشفى لإجراء العملية. ولو تأخر الوقت أكثر من ذلك فقد يصبح الفصل أشد خطورة وتتدنى فرص التعافي لاحقا.
وبالتالي نصح جيلاني الأسرة بالقدوم فورا إلى إنجلترا.
يتذكر الطبيب لحظة وصول الأسرة فيقول: “وصلوا في مطلع أغسطس/آب ولم يكن لدينا سوى القليل من المال المطلوب. وصلت الطفلتان وكنت متوترا إذ شعرت بمسؤولية شخصية تجاههما”.
تم توفير إقامة لخال البنتين محمد إدريس، وجدهما، بشقة قرب المستشفى؛ أما زينب فآثرت البقاء بجانب طفلتيها والنوم في نفس الغرفة بالمستشفى.
تؤكد الأم أن لكل بنت شخصيتها المختلفة عن الأخرى وإن التصقتا بالرأس.
تقول: “صفا ذكية وسعيدة وتحب الكلام” بينما مروة خجولة “تفضل أن تناجي نفسها وإن كلمناها قد لا ترد”.
وبعد وصول الأسرة باسبوع، وبينما كان جيلاني يتناول الغداء مع صديقة له تعمل محامية حدث شيء غير متوقع قلب موازين الأمور. بينما كان يقص عليها حكاية التوأمين وإذ بالمحامية ترفع هاتفها وتجري اتصالا.
أعطت المحامية السماعة لصديقها الجراح وطلبت منه أن يخبر من على الجانب الآخر من الخط عن البنتين، وكان المستمع هو رجل أعمال باكستاني ثري يدعى مرتضى لاخاني، وخلال دقائق معدودة تم التبرع بسداد تكاليف العلاج.
يقول لاخاني “البنتان من باكستان وهي بلدي الأصلي، ولكن سبب عرضي المساعدة في الواقع هو أن تلك العملية ستنقذ حياة طفلتين. لم أفكر كثيرا في الأمر فالأطفال هم المستقبل”.
ملتصقتان من الرأس
تنتج حالة التوائم الملتصقة من تلقيح بويضة واحدة وبالتالي يكون التوأمان متماثلين.
وثمة نظريتان لسبب الالتصاق – إما أن انفصال أحد الجنينين عن الآخر حدث متأخرا فظل أحد التوأمين ملتصقا بالآخر جزئيا، أو حدث الانفصال فعلا في الرحم ثم لقرب الجنينين التصق التوأمان واندمج بجزء من جسم الآخر مع النمو.
وحين تحدث تلك الحالة فعادة ما يكون الالتصاق عند الصدر أو البطن أو الحوض.
ولكن حالة صفا ومروة وضعت أطباء مستشفى غريت أورموند أمام تحديات عديدة، فالبنتان ملتصقتان من قمة رأسيهما بينما يتجه جسداهما في اتجاهين متضادين. وبالتالي لم تر الواحدة وجه الأخرى.
اتخذت جمجمتيهما شكلا أنبوبيا، وأظهرت الأشعة تمايز مخ إحداهما عن الأخرى وإن كان شكل المخ مشوها، فالنصف الأيمن لكل من المخين بارز بزاوية قائمة باتجاه التجويف الدماغي للتوأم المقابل.
وبالتالي يلزم ترميم الرأس ليكون أقرب ما يكون للطبيعي.
وتمثلت الصعوبة الكبرى بالنسبة لفريق الجراحة في كيفية فصل الشبكة المعقدة المشتركة من الأوردة والشرايين، ومن خلالها يمد كل توائم الآخر بالدم. وهناك مخاطرة كبيرة بقطع تلك الإتصالات بما يحرم المخ من إمداده ويتسبب في سكتة دماغية.
لا تتوافر أرقام رسمية عن مدى شيوع حالات الالتصاق بالرأس، ولكن يشير أحد التقديرات إلى حالة واحدة بين كل 2,5 مليون ولادة، وأغلبها لا تقوى على الحياة لأكثر من 24 ساعة.
وتعتبر كل من هذه الحالات حالة فريدة، ولم تجر إلا 60 محاولة لفصل توائم ملتصقة بالرأس منذ عام 1952، تاريخ أول محاولة.
يعتقد جيلاني أن العالم يشهد قرابة ست حالات ولادة توائم ملتصقة بالرأس سنويا قد ينجح فصلها.
ويعد مستشفى غريت أورموند ستريت رائدا في هذا النوع من الجراحات، وستكون حالة صفا ومروة ثالث حالة توائم ملتصقة بالرأس يتعامل معها المستشفى، وهو عدد أكبر من أي مركز آخر في العالم. ويدرك الفريق الجراحي من خبرته أن أفضل النتائج تتحقق حين يجري الفصل على مراحل خلال عمليات عدة ما يسمح بالتعافي بعد كل عملية.
وفضلا عن الجراحين وطاقم التمريض يضم الفريق المشارك في رعاية التوأمين وعملية الفصل بينهما بمستشفى غريت أورموند ستريت نحو 100 شخص منهم متخصصون بالهندسة الحيوية فنيون في مجال التطبيقات ثلاثية الأبعاد فضلا عن مصمم لتصور مراحل الواقع الافتراضي للحالة.
يباشر جيلاني المهام الأساسية لفصل مخي البنتين وأوعيتهما الدموية، أما جراح التجميل البروفيسور ديفيد داناواي فيضطلع بعملية إعادة تشكيل دماغي الفتاتين وإضافة سقف لجمجمة كل منهما.
العملية الأولى
الساعة 08:00 صباح الاثنين الخامس عشر من أكتوبر/تشرين الأول 2018 وقد تجمع فريق من نحو عشرين فردا في صالة العمليات رقم 10 بمستشفى غريت أورموند ستريت. يقوم كل فرد بالفريق بتعريف نفسه والدور الذي يتولاه.
يقول جيلاني: “لدينا حالة واحدة اليوم. صفا ومروة، حالة واحدة وطفلتان”.
بخطى بطيئة ستبدأ رحلة التوأمين نحو الاستقلال.
هدف الجراحة الراهنة – وهي الأولى من ثلاث عمليات رئيسية – هو فصل الشرايين المشتركة للتوأمين.
يراجع جيلاني خطة العمل للمرة الأخيرة قبل البدء، غير أن الجميع على بينة من الدور المنوط بهم، إذ استعد الفريق منذ عدة أشهر لمثل هذا اليوم.
يقول داناواي: “راجعنا كل شيء بأدق التفاصيل المرة تلو الأخرى. جاءت ساعة الحسم ولا مجال للخطأ”.
في تلك الأثناء يجري إعداد التوأمين لصالة العمليات بأحد عنابر الأطفال. ارتدت صفا ومروة رداء العمليات ولكنهما تبكيان وتتقلبان بقلق.
يحمل فصل التوائم الملتصقة مخاطر جمة قد تودي بحياة أحد التوأمين أو كليهما خلال الجراحة أو قد تلحق بهما إصابة دماغية. لا تخفى تلك الأخطار عن الأسرة التي أولت الفريق الطبي ثقتها التامة.
يقول جيلاني: “لا تخفى على أحد صعوبة الحياة لتوأمين ملتصقين بهذا الشكل، ولذا تهون المجازفة بعملية الفصل والأسرة تدرك ذلك”.
ويقول داناواي إن الفريق أجرى تقييما دقيقا للجوانب الأخلاقية المتعلقة بالحالة.
ويضيف: “طبعا أعتقد أن حياة التوأمين بعد فصلهما ستكون أفضل بكثير، ولو لم نعتقد بأن لدينا فرصة كبيرة جدا في النجاح لراجعنا أنفسنا قبل القيام بالعملية. الفريق بالكامل يعتقد بإمكان فصل التوأمين بنجاح”.
ومع وصول البنتين على النقالة إلى صالة العمليات تبادر زينب إلى تقبيلهما، وهي تعلم أن الأشهر الآتية ستكون صعبة عليهما، وكذلك تشعر بصعوبة تركهما ولو لحين. تغمر عينيها الدموع بينما تهدئ من روعها إحدى الممرضات التي أصبحت تنظر اليهم وكأنهم من أقاربها.
تقول الأم: “إن شاء الله ستمضي الأمور على خير وكُلي ثقة بالأطباء. إن شاء الله كل شيء يكون على ما يرام”.
تقنية على أعلى مستوى
سبق لجيلاني وداناواي أن شاركا في عمليتي فصل توائم ملتصقة بالرأس في مستشفى غريت أورموند ستريت عامي 2006 و2011.
وكانت العملية الثانية لفصل التوأمين ريتال وريتاج جبورة من السودان وعمرهما 11 شهرا.
يقول داناواي إن عملية فصل صفا ومروة هي الأصعب بالتأكيد لأسباب ليس أقلها الانحراف الكبير في وضع المخ وشكله.
ويضيف: “كانت الحالتان السابقتان أسهل وكنا محظوظين. ولكن في الحالة الراهنة قللنا من أهمية تعقيد التصاق المخين بشكل منحرف، كما ان البنتين بعمر يزيد الأمور صعوبة”.
ويعتقد الجراحون أن العمر المثالي لفصل توأمين ملتصقين بالرأس يتراوح بين ستة أشهر و12 شهرا.
يضيف جيلاني: “لقد كان الأمر شاقا على البنتين، فكلما كان المخ صغيرا والأوعية الدموية صغيرة عادت الأمور للمسار الطبيعي بشكل أيسر”.
ويوافقه داناواي: “يكون كل شيء أسهل. الجلد يشد نفسه ويبرأ بشكل أفضل والعظام تنمو بشكل أحسن لسد الفراغات”.
قاربت صفا ومروة عامهما الثاني والسن ليس في صالحهما، ولكن يرى فريق العمل أمورا أخرى في صالح التوأم، فقد تطورت تقنيات الأشعة والتصور الافتراضي بشكل كبير خلال السنوات الثماني الماضية ما ساعد الفريق على التخطيط لعملية الفصل بتدقيق أكثر من أي وقت مضى.
في مكتب ضيق مكتظ تبرز شاشة كمبيوتر ضخمة مقعرة ويجلس جولينغ أونغ وهو جراح متخصص بجراحات تجميل الرأس والوجه. يرأس أونغ فريق التصور الافتراضي لما سيكون عليه رأسا صفا ومروة بعد الفصل ويشرح بعض الأنظمة المتطورة التي باتت بأيدي الأطباء.
يقول: “هذه الحالة بين حالات فريدة لم ترد علينا أثناء دراسة الطب، ولكن تُمكننا هذه البرمجيات من تصور نموذج لما سيكون عليه الشكل التشريحي بالنظر إلى وضع الطفلتين ومن ثم التخطيط لمسار الجراحة قبل الشروع فيها، وذلك بالاستعانة بالكمبيوتر”.
على الشاشة يعرض أونغ نماذج مجسمة مذهلة لجلد الطفلتين وجمجمتيهما وتداخل المخين بالاستعانة بصور الأشعة التقليدية، ويقول: “يساعدنا الكمبيوتر على تصور استراتيجيات مختلفة للجراحة وتوقع مكامن الخطر نظرا للوضع التشريحي الفريد لهذين التوأمين”.
غير أن الأمر لا يتوقف عند صور مجسمة على الكمبيوتر، بل تصبح واقعا ملموسا بفضل طابعة ثلاثية الأبعاد.
مضت 48 ساعة وخرج كوك يين تشوي، فني المجسمات بالمستشفى، بكتلة من البلاستيك اللّين، ومع غسلها وتشذيبها تظهر صورة أشبه بتجويف جمجمة إحدى التوأمين وغشائه الجلدي. الغرض من هذه النسخة المطابقة للأصل المساعدة في تصور كيفية تقسيم الطبقة الجلدية المشتركة بين الجمجمتين.
جرى تصميم العديد من تلك المجسمات لتساعد الجراحين على استكشاف التركيب العظمي والجلدي الغريب للبنتين قبل أن يمتد مشرط الجراحة لجمجمتيهما الحقيقيتين.
يقول جيلاني: “تساعد رؤية تلك النماذج والتعامل معها قبل الجراحة بشكل هائل في التخطيط للعملية وتنفيذها. المطلوب هو القيام بفك أحد المخين من الآخر وهو ما يصعب تخيله دون تجربة ذلك بشكل ملموس”.
يوافقه داناواي قائلا إنهم أمضوا الكثير من الوقت في التدقيق في تلك المجسمات وتجربة سيناريوهات مختلفة.
ولم يقتصر الأمر على المجسمات، بل يلبس جيلاني منظارا يتيح له رؤية الواقع الافتراضي بينما يمسك بأداة تحكم، ويقول وهو يتمايل في كرسيه أمام شاشة الكمبيوتر: “شيء مذهل”. ويصف ما يراه من محاكاة لتشابك الأوعية الدموية للبنتين، مثنيا على دور المبرمجين والمهندسين الذين لولاهم لما استطاع الأطباء تنفيذ المهمة.
العملية الثانية
تجري العملية الثانية بعد شهر من الأولى، فبعد قطع الشرايين المشتركة للتوأمين فإن مهمة اليوم فصل الأوردة التي تعيد الدم من المخ إلى القلب، وفي كل مرة يتم قطع وريد يخشى الأطباء حدوث سكتة دماغية لأحد التوأمين.
هذه المرة لا تسير الأمور بسلاسة.
فما إن يتم رفع هيكل الجمجمة إلا وتنزف البنتان. لقد وجد الأطباء أن جلطات تكونت بعد العملية الأخيرة بأوردة عنق صفا لتحول دون سريان الدم من المخ باتجاه القلب فينساب بدلا من ذلك لمروة ليرتفع ضغط دم إحدى التوأمين بشكل خطير بينما يتدنى ضغط الأخرى بما لا يقل خطورة.
في تلك الأثناء يكافح أطباء التخدير للإبقاء على الحالة مستقرة.
ثم سرعان ما ينخفض نبض مروة بشدة حتى يتوجس الأطباء من أن تموت على طاولة العمليات.
يسود الصمت فجأة بالغرفة بينما تشخص الأعين إلى الشاشات ولا يُسمع إلا الصوت المتسارع لمنبه تتبع ضربات القلب.
ولكن الأزمة تمر إلا أن عواقبها ستكون خطيرة.
بات واضحا للجراحين أن مروة هي التوأم الأضعف، فقرروا منحها وريدا مشتركا رئيسيا على أمل زيادة فرصها في النجاة.
إنه قرار صعب إذ يدرك جيلاني أنه قد يحمل تبعات خطيرة لصفا، وهي الأقوى حتى الآن.
ولكن الرأي يستقر على أنه القرار الصائب، وتستمر العملية لأكثر من 20 ساعة تستنفد قوى جيلاني الذي يسلم الراية لجراح التجميل جولينغ أونغ لسد الجروح.
الآن أعلن جيلاني عن ارتياحه قائلا “كنا نعتقد إننا سنفقد مروة في مرحلة ما، لكن إذا استفاقتا ونأمل في ذلك، فستكون الأمور على ما يرام”.
لم يبرح الجراحون صالة العمليات قبل السادسة والنصف صباح اليوم التالي.
يتصل جيلاني بعد الظهر بالمستشفى للاطمئنان، فيُبلّغ أن صفا في خطر إذ لا تتنفس طبيعيا وقد ظهر ما يشبه الطفح على جلدها.
يقول: “ظننت أن صفا ستموت!” متذكرا كيف انهار على أرضية مطبخه وأجهش بالبكاء مع إرهاقه وحرمانه من النوم.
“مسكينة زوجتي، لم ترني أبدا بهذا الشكل من قبل، ناولتني الهاتف لاتصل بديفيد”.
“فقد استثمرت الكثير في هذه الحالة، وأشعر بالارهاق الجسدي في هذه المرحلة، فلم يتبق لي شيء من الطاقة وأصبح من الصعب السيطرة على العواطف”.
عاد الجراحان للعناية المركزة ليفحصا صور الأشعة المقطعية لصفا. وقع ما كانا يخشياه، أصيبت بسكتة دماغية في الجزء الذي أخذوا منه الوريد الرئيسي لمروة.
خلال اليومين التاليين بقيت صفا في حالة حرجة.
بينما لم تجد زينب وأخوها وجد البنتين إلا الدعاء بجوار البنتين.
أخيرا بدأت بوادر تحسن تطرأ على صفا. لم تعد البنتان بحاجة لجهاز التنفس الصناعي، فتنفس الجراحون الصعداء.
ولكن السكتة تركت ذراع صفا وساقها اليسرى واهنتين. أحس جيلاني بالذنب، وقال “الحدث الأعظم بالنسبة لي سيكون عندما تكون قادرة على المشي وعندما تستخدم ذراعها الأيمن لأنني أعلم أنني سبب هذا الضعف”.
جلد جديد
ليس سهلا تحويل جزء تشريحي مجوف أنبوبي مشترك إلى رأسين طبيعيين مستديرين، إذ لا يتوفر ما يكفي من جلد وعظم لتغطية هامة رأسيهما بعد الانفصال.
يناير/كانون الثاني 2019، قبل أسبوعين من الفصل النهائي. يجلس جراحا التجميل ديفيد داناواي وجولينغ أونغ إلى جانب البنتين محاولين حل جانب من المشكلة، وهو الجلد اللازم لتغطية الرأسين عند فصلهما.
قبل أسبوعين وضع الجراحان كيسين بلاستيكيين صغيرين تحت جلد الجبهة ومؤخرة الجمجمة المشتركة وبدت المنطقتين متورمتين بشكل غريب.
يعمل الكيسان على شد الأنسجة وتوسيع رقعتها لتشجيع نمو الجلد.
يشرح داناواي بالقول: “ثمة فتحة دقيقة متصلة بالكيسين لحقن سائل ملحي لنفخ الكيسين تدريجيا كالبالون لمط الجلد فوقهما” على أمل أن يتوفر ما يكفي من جلد لتغطية هامتي البنتين بعد ستة أسابيع .
المهمة الأولى داخل صالة العمليات هي رفع ثلاثة أجزاء كبيرة من عظام الجمجمة. ارتدى جيلاني نظارات جراحية مكبرة متتبعا العلامات التي وضعها على الجمجمة المشتركة للبنتين بعد حلاقة الشعر ليبدأ بقطع الجلد والعظم.
وما إن ينكشف المخان، يستبدل جيلاني النظارة الجراحية بآلة أخرى أكثر دقة بكثير.
ينتصب في وسط غرفة العمليات مجهر جراحي بارتفاع سبعة أقدام ليمكّن جراح الأعصاب من فحص الأوعية الدموية متناهية الدقة.
الساعة الآن 2:30 ظهرا وجيلاني يعلن: “قمنا بسد شريان صفا الذي يزود مخ مروة بالدم والآن يتعين الانتظار”.
إنها لحظة حرجة، ففي كل مرة يتم قطع إتصال ما يصاحب ذلك خطر حدوث تلف في المخ. تمضي خمس دقائق ويقول الجراح إن المخ “لا يبدو متضررا”، ويواصل العمل.
يستمر هذا الإجراء المعقد لعدة ساعات أخرى يتم خلالها سد الشرايين المشتركة التي تحمل الدم النقي من إحدى التوأمين للأخرى، وقطعها ثم لحمها بعناية.
في تلك الأثناء يباشر فريق ثان يتزعمه داناواي العمل على مسافة قريبة من مسرح الأحداث الرئيسي.
تتمثل مهمة فريق داناواي في تكوين هيكل صلب من الأجزاء الثلاثة من الجمجمة على شبكة معدنية باستخدام مسامير، وهذه الأجزاء يمكن فصلها في عمليات لاحقة.
يقول داناواي إن الأمر صعب بسبب عمر التوأمين “لأنهما أكبر سنا وأكثر نشاطا ويلزم أن يكون الترميم متينا لمقاومة الحركة والشد والجذب بالرأس”.
وبينما يعمل الفريق بصبر لفصل أحد المخين عن الآخر يستعين أفراده بغشاء من البلاستيك الطبي الناعم للحيلولة دون التحام أجزاء المخ مجددا بين العملية والأخرى. وتتم الاستعانة بما يشبه الرافعة المتصلة بالبلاستيك لشد أجزاء المخ بالاتجاه الصحيح وتقويم وضعها تدريجيا.
وما إن ينتهي فصل الشرايين المشتركة يعيد الفريق تثبيت هيكل الجمجمة. واستغرقت العملية خمس عشرة ساعة.
تنقل البنتان للعناية المركزة، وبعد يومين تنقلان لعنبرهما المعتاد والأطباء مطمئنون للحالة.