اليمن على موعدٍ مع مبعوث جديد – ما بعد غريفيث: البديل الأممي المحتمل وتحرُّكات اللحظة الأخيرة
منصة ٢٦ سبتمبر – وكالات
أعلن الأمين العام للأمم المتحدة،”أنطونيو غوتيريش” في 12 مايو 2021، تعيين مبعوثه الخاص إلى اليمن، الدبلوماسي البريطاني “مارتن غريفيث” أميناً عاماً مساعداً للشؤون الإنسانية ومُنسِّقاً للإغاثة في حالات الطوارئ، وبموجب هذا التعيين سيتولى غريفيث منصبه الجديد بعد أربع سنوات قضاها خلفه في الخدمة، وهو الاقتصادي البريطاني “مارك لوكوك”.
ومع أن المنظمة الدولية أوضحت أن غريفيث سيواصل مهمة الوساطة في النزاع اليمني إلى حين إيجاد بديل مناسب له، إلا أن التوقيت الذي جرى فيه الإعلان عن هذا التغيير أعطى انطباعاً بأن الوساطة الأممية في اليمن وصلت إلى طريق مسدود، خصوصاً بعد أن أظهر غريفيث نفسه “اهتماماً بتولي مهمة أممية جديدة”، وفقاً لمسؤولي المنظمة الدولية، وأن هناك تعويلاً أكبر على الدور الذي يقوم به المبعوث الأمريكي “تيموثي ليندركينغ” في ظل اعتبار إدارة الرئيس “جو بايدن” حلَّ النزاع اليمني، “أولوية قصوى” بالنسبة لسياستها الخارجية.
تُلقي هذه الورقة الضوءَ على الأسباب المباشرة وغير المباشرة لتعثُّر غريفيث في مهمته وتعيينه في منصب أممي جديد في هذا التوقيت، وتداعيات ذلك على دور الأمم المتحدة ومسار السلام في اليمن بشكل عام.
الخلفية والسياق:
عندما عُيِّن “مارتن غريفيث” في فبراير 2018 مبعوثاً خاصاً للأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن، سادت أجواء من التفاؤل في الأوساط السياسية اليمنية، وكان التصور وقتها أن تعيين مبعوث لليمن يحمل الجنسية البريطانية ولديه خبرة جيدة في شؤون السلام، يعكس توجهاً لدى المجتمع الدولي بوضع حدٍّ للحرب المأساوية في اليمن؛ فالمبعوث هذه المرة ليس عربياً كسابقيه (جمال بن عمر، وإسماعيل ولد الشيخ)، وإنما بريطاني، وهذا – كما اعتقد البعض – سيمنحه قوة ودعم لا محدودين؛ ليس من بريطانيا العظمى وحسب، ولكن من قبل المجتمع الدولي برمته.
فبريطانيا هي إحدى الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، وتُمسِك بملف اليمن في المجلس، وتملك نفوذاً وتأثيراً قويين على المستوى الدولي، وبالتالي سترمي بكل ثقلها خلف مواطِنها لإنجاح مهمته الجديدة، ولن تسمح بفشلها.
وقد تعزَّز شعور التفاؤل بإمكانية نجاح المبعوث الأممي في مهمته الصعبة، عندما تمكَّن قبل نهاية السنة الأولى من تعيينه في منصبه من جَمْع أطراف الصراع، واستئناف المحادثات السياسية بينهم في العاصمة السويدية ستوكهولم في ديسمبر من العام 2018، بعد توقُّفٍ دام لأكثر من عامين.
وعلى الرغم من أن اتفاق ستوكهولم نجح في إيقاف معركة الحديدة وتجنيب سكان المدينة ويلات الحرب والدمار، وتحت غطاء هذا الاتفاق جرى تبادل إطلاق ما يزيد عن ألف أسير من الطرفين منتصف العام الماضي 2020، إلا أن الاتفاق الذي كان يُراد له أن يمثل نموذجاً مصغراً وناجحاً لعملية سلام يمكن أن يُعمَّم فيما بعد على كامل البلاد تعثَّر، ولم يتمكن المبعوث الأممي بعد مرور حوالي عامين ونصف على الاتفاق من تنفيذ كامل بنوده.
كما لم يتمكن في المحصلة النهائية من تحقيق السلام في اليمن، فأُبْعِدَ – على ما يبدو – من منصبه بطريقة تحفظ ماء الوجه له، وربما لبلده بريطانيا، بتعيينه في موقع أرفع كوكيل للأمين العام للشؤون الإنسانية.
أسباب عدم بقاء غريفيث في منصبه:
يُمكِن فَهم السبب المباشر للتغيُّر الوظيفي في مهمة مارتن غريفيث انطلاقاً من نصّ الإحاطة الأخيرة التي قدمها إلى مجلس الأمن الدولي في 12 مايو الماضي؛ ففي هذه الإحاطة، وبشكل أقل في الإحاطة التي قبلها، تخلَّى غريفيث عن لغته المهادنة ودبلوماسيته المعهودة، وأشار بكل وضوح إلى رفض جماعة الحوثي مقابلته خلال هذه المفاوضات، وفي عدة مناسبات، واعتبر هذا الرفض مؤشراً سيئاً، وأضاف بطريقة تنم عن مدى استيائه جراء هذه الخطوة، قائلاً: “إن تحويل حضور الاجتماعات إلى صفقات أمر غير مقبول بكل بساطة، وإنّ تفويت الفرصة أمام المجتمع الدولي للتحدث عن آفاق السلام هو تقصير في أداء الواجبات”.
ليس هذا وحسب؛ فالمبعوث الأممي، الذي يُدرِك تماماً تبعات وأبعاد لجوء أحد طرفي الصراع إلى سياسة المقاطعة ورفْض اللقاء به، أظهرَ على غير العادة انزعاجه الشديد من الحوثيين وانتقدهم في أكثر من فقرة في الإحاطة الأخيرة، وحمَّلهم بشكل مباشر مسؤولية تعثُّر جهود السلام في اليمن.
وفي مقابل ذلك أشاد غريفيث بحكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي قائلاً: “إنّ التعاون مع حكومة اليمن في هذه المفاوضات كان ممتازاً”، مضيفاً: “أودّ أن يكون هذا واضحاً”.
إذن، من الواضح أن السبب المباشر لعدم مواصلة غريفيث مهمته الأساسية كوسيط أممي هو عدم قبول أحد أطراف الصراع (وهم في هذه الحالة جماعة الحوثي) مقابلته والجلوس معه لفترة طويلة، وهذا هو ما حدث مع سلفه الموريتاني ولد الشيخ، ما يعني عملياً انتفاء الدور، وعدم القدرة على ممارسة دور الوسيط/المُيسِّر، وفي الأخير فشل مهمته.
ومع ذلك، وقبله، يمكن للمراقب لأداء غريفيث التفاوضي، والظروف التي أحاطت تحركاته، وتحليل العديد من إحاطاته لمجلس الأمن، أن يتلمَّس أسباباً أخرى غير مباشرة لإبعاده من منصبه في هذا التوقيت، ويمكن سَرد هذه الأسباب على النحو الآتي:
أ. شخصية المبعوث الأممي وأدؤه
في الواقع قد لا تُجدي نفعاً جنسية المبعوث والدعم الدولي المقدَّم له، إذا كانت شخصيته ضعيفة وأداؤه لا يتناسب مع المهمة وحجم المسؤولية الملقاة على عاتقه، والمتتبع لمسار عمل غريفيث طوال المدة الماضية سيكتشف أن شخصيته لم تكن مؤثرة، بالمقارنة مثلاً بالمبعوث الأممي الأول إلى اليمن جمال بنعمر، الذي كان يتمتع – بحسب العديد من المراقبين – بشخصية “كاريزمية”، وتمكَّن في مرحلةٍ ما من تطويع القوى السياسية اليمنية إلى حدٍّ كبير، واستغلال كل إمكانيات منصبه، ودعْم الأمم المتحدة ومجلس الأمن له، لممارسة ضغوط فاعلة على الأطراف المحلية والخارجية للوصول إلى تفاهمات وتوافقات كادت أن تؤتي أوكلها لولا لجوء أطراف الصراع إلى لغة السلاح لتصفية حساباتها.
أما غريفيث، فمن الواضح أن قدراته الشخصية ومهاراته المهنية متواضعة، وقد أُخِذَ عليه مبالغته في سياسة الحياد ومهادنة أطراف الصراع، واستخدام اللغة الناعمة معهم ظناً منه أنها سياسة مُحفِّزة ويمكن أن تُسهِم في إنجاح مهمته أو تطيلها على الأقل، غير أن هذا الأسلوب الذي اتضح مبكراً أنه غير فاعل استمر على حاله حتى تحوَّل إلى ما يشبه “الحياد السلبي” الذي أوصل مهمته في الأخير إلى طريق مسدود.
علاوة على هذا، لم تكن لغريفيث استراتيجية أو رؤية واضحة للوصول إلى السلام، ولم يساعده نائبه وباقي طاقم مكتبه الضعيف، الذي يتكون من مجموعة من الموظفين الإداريين وقليلي الخبرة السياسية من تقديم أفكار ورؤى من شأنها تحسين الأداء ودعم مهمة المبعوث. وبالتالي، اعتمد غريفيث على ما يمكن أن تقدمه له أطراف النزاع من أوراق يمكن أن يضعها على طاولة المجتمع الدولي كإنجازات تُحسَب له. وفي الواقع لم تُقدِّم له أطراف النزاع، ولا حتى المجتمع الدولي، الكثيرَ لدعم “نواياه الحسنة” إن جاز التعبير، وهذا أمرٌ متوقع؛ فالنوايا الحسنة لا تكفي وحدها لصُنْع السلام في بلدٍ أخذ فيه منحنى الصراع مستويات عالية من التعقيد.
وقد أضاع غريفيث الكثير من الوقت في لقاءات وزيارات غير مُلحَّة؛ فعلى سبيل المثال عقد العديد من اللقاءات مع فئة النساء ومجموعات أخرى ليست مؤثرة في الصراع الدائر، وكان يحرص قبيل كل إحاطة لمجلس الأمن على تكثيف تحركاته الدبلوماسية “الشكلية” ليعطي انطباعاً للمجتمع الدولي بأنه يمكن أن يُحقِّق تقدماً في مسار الحل السياسي، وهذا لم يكن صحيحاً؛ فمعظم إحاطاته كانت تتشابه، ولم تتضمن جديداً يمكن البناء عليه لتحقيق اختراق سياسي ملموس، بل كانت مجرد تلاعب في الألفاظ وعبارات مُنمَّقة لإشاعة أجواء من التفاؤل غير الواقعي.
ب. عدم القدرة على إحداث اختراق سياسي
كما أشرنا سابقاً لم يستطع المبعوث الأممي طوال ثلاث سنوات من عمله من تحقيق تقدم يذكر على الصعيد السياسي، بل إن تحركاته ظلت تراوح مكانها، ولم تُقارِب الملف السياسي بشكل واضح وصريح إلا فيما ندر، وانصبّ مجمل هذه التحركات على ما سمي بـ”ملفات بناء الثقة”، وهي في مجملها ملفات إنسانية واقتصادية تتعلق بحركة الموانئ والمطارات وتسهيل عبور المواطنين والسلع في بعض المدن، بالإضافة إلى ملف الأسرى، ودفع رواتب الموظفين العموميين.
وهذا ما تم التركيز عليه في محادثات السويد بين الأطراف اليمنية المتصارعة، والتي ما كان للمبعوث الأممي عقدها بتلك الصورة لولا الدور الفاعل لوزير الدفاع الأمريكي السابق جيمس ماتيس الذي دفع بقوة لعقد تلك الجولة من المحادثات.
وبطبيعة الحال، فإن تجزئة الملفات واستغراق وقت طويل في قضايا تفصيلية وغير رئيسة، دون الخوض في إطار الحل السياسي، ساهم في تعقيد الأزمة اليمنية وإطالة أمد الصراع، لاسيما في ظل العقبات والتحديات التي واجهت مهمة المبعوث حتى فيما يتعلق بقضايا بناء الثقة في المجال الإنساني.
ج. تعيين مبعوث أمريكي خاص لليمن
منذ الوهلة الأولى لصدور قرار الرئيس الأمريكي جو بايدن بتعيين مبعوث خاص له لليمن في فبراير الماضي، فُهِم أن هذه الخطوة تأتي على حساب دور الأمم المتحدة، وعلى حساب دور المبعوث الأممي مارتن غريفيث.
وعلى ما يبدو، لو كانت الإدارة الأمريكية تثق بدور وقدرات المبعوث الأممي لما عيَّنت مبعوثاً خاصاً بها، مُكتفيةً بتقديم الدعم لغريفيث. ولعله ليس من باب المصادفة أن أول مَنْ سرَّب خبر إبعاد غريفيث (أو ترقيته وتعيينه في منصب آخر) هو موقع مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية، وقد عزا الموقع أسباب التوجه لتنحية غريفيث من موقعه كوسيط إلى تراجع دوره عندما قررت إدارة بايدن القيام بدور أكثر نشاطاً في محاولة التفاوض بشأن نهاية الحرب، ومنها تعيين “تيموثي ليندركينغ” مبعوثاً خاصاً بها إلى اليمن.
وعلى الرغم من عدم وجود ما يُثبِت أن هناك تعارُضاً بين المهمتين الأممية والأمريكية، لاسيما أن تصريحات المبعوثين الأممي والأمريكي تتحدث عن التعاون والدعم المتبادل بينهما للتوصل إلى تسوية سياسية في اليمن، غير أن بعض القراءات تُشير إلى أن ثمة اختلافاً في مقاربات المبعوثين لحل الأزمة اليمنية.
ففي حين يُفضِّل المبعوث الأمريكي البدء بإجراءات تخفيف القيود على دخول السلع والمشتقات النفطية عبر الحديدة، وفتْح مطار صنعاء الدولي كمقدمة لعملية وقف إطلاق النار، ومن ثمَّ إزالة القيود بشكل كامل بعد تثبيت وقف إطلاق النار وإنهاء العمليات العسكرية في كافة انحاء البلاد، فإن وجهة نظر المبعوث الأممي/البريطاني تختلف، إذ تُركِّز على وقف العمليات العسكرية أولاً، خصوصاً في مارب، ومن ثمّ تخفيف القيود على حركة الواردات الإنسانية والتجارية عبر ميناء الحديدة، وكذلك فتح مطار صنعاء أمام حركة الطيران لوجهات إقليمية ودولية مُحددة.
د. تعقيدات الملف اليمني، واختلاف طبيعة المرحلة
إن تعقيدات الملف اليمني، وتعدُّد أطراف الصراع المحلية وتشددها، واتخاذ الحرب أبعاداً إقليمية ودولية، ناهيك عن عدم توفر الشروط الموضوعية حتى الآن لإنضاج تسوية سياسية شاملة؛ كل ذلك صَعَّب من مهمة المبعوث الأممي إلى اليمن، وسيصعب على الأرجح من مهمة أي مبعوث آخر غيره.
ولعل التحولات الجارية في المنطقة حالياً قد كشفت مدى الترابط والتداخل بين العديد من القضايا والملفات الإقليمية والدولية، ما أضاف تعقيدات جديدة إلى مهمة غريفيث الذي بات عليه أن يفهم إلى جانب تفاصيل الملف اليمني طبيعة العلاقات والتفاعلات الإقليمية التي تتقاطع مع الملف اليمني، والتي بدأت تتشكل على وقع رغبة أمريكية في تقليل حضورها ووجودها في الإقليم وإعادة التموضع والانتشار العسكري في مناطق أخرى أكثر أهمية حالياً بالنسبة لواشنطن، لاسيما في المحيط الهادي وبحر الصين الجنوبي لمواجهة “التهديد الصيني المتعاظم”، وهذه السياسة تستدعي من واشنطن إعادة ترتيب الأوراق في المنطقة، وخلق قدرٍ من الهدوء النسبي فيها من خلال تبريد بعض الملفات الساخنة، وضبْط مستوى التوتر عند حدود معينة.
وفي هذا السياق، تركز واشنطن على الملف النووي الإيراني، وتعطيه أهمية قصوى كون العودة للاتفاق النووي من وجهة نظر إدارة بايدن سيمثل مدخلاً لتطبيع الأوضاع، وسيسهم في فتح آفاق للحوار البناء بين دول المنطقة، لاسيما بين إيران والمملكة العربية السعودية، اللتين عقدتا مؤخراً عدة محادثات في العاصمة العراقية بغداد وربما في عواصم أخرى، باعتبار أن حالة التنافس والصراع غير المباشر بين البلدين تنعكس سلباً على أمن المنطقة واستقرارها، ولا تخدم التوجهات الأمريكية، على الأقل في هذه المرحلة.
وقد عززت التصريحات الأخيرة، التي أدلى بها كلٌّ من وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن”، والمبعوث الأمريكي الخاص إلى اليمن “تيموثي ليندركينغ” هذه النظرة الأمريكية، حول ترابط الملفات في المنطقة، إذا قال بلينكن في خضم استمرار المباحثات النووية بوساطة أوروبية بين أمريكا وإيران: “إن علاقات جيدة بين السعودية وإيران يمكن أن تُنهي نزاعات ومعارك بين الوكلاء تُزعزع استقرار المنطقة”، داعياً طهران إلى استعمال نفوذها على الحوثيين للتحرك بشكل بنَّاء لإنهاء الحرب في اليمن.
أما ليندركينغ فقد ربط بشكل لا لبْس فيه بين مسألة الملف النووي والعلاقات السعودية-الإيرانية والوضع في اليمن عندما قال في لقاءٍ تلفزيوني، في 25 مايو 2021: “إن تقدُّم المباحثات بشأن الملف النووي الإيراني سيُسهِم في تقدُّم الحوار السعودي الإيراني، ويُفيد اليمن”.
ومن الواضح إذن أن الملف اليمني الذي يشهد تصعيداً عسكرياً في محافظة مارب وتزايُد هجمات جماعة الحوثي التي تطال عمق الأراضي السعودية، أخذ يرتبط بشكل أوثق بالملف النووي، وملف العلاقة بين الرياض وطهران، ما يعني أن أي انفراجة على صعيد هذين الملفين ستنعكس إيجاباً على ملف التسوية السياسية في اليمن. وبالتالي، فإن اختلاف طبيعة المرحلة والتحولات القائمة والتداخلات بين الملفات الإقليمية؛ جميعها جعلت من التعاطي مع الشأن اليمني أكثر تعقيداً، ويمر بمستويات مختلفة ومتعددة من التفاعلات، لا يستطيع المبعوث الأممي (غريفيث) بالاعتماد على قدراته المحدودة أن يتعامل معها ويوظفها لصالح السلام في اليمن.
ما بعد غريفيث: البديل الأممي المحتمل وتحرُّكات اللحظة الأخيرة
لا شك أن تغيير أكثر من مبعوث أممي إلى اليمن دون تحقيق نتائج تذكر يُضعِف دور الأمم المتحدة، ويُشكِّك في قدرتها على القيام بدور وساطة أكثر إيجابية وفاعلية في سبيل إنجاز تسوية سياسية شاملة في هذا البلد. أما بالنسبة لمارتن غريفيث الذي يخوض حالياً آخر محاولة له في المنطقة لإحداث اختراق في جدار الأزمة اليمنية على الأقل في الجانب الإنساني، فإن مسألة تغييره لن تؤثر كثيراً على جهود السلام الدولية في اليمن، لاسيما في ظل وجود مبعوث أمريكي يسعى بشكل نشط وملحوظ إلى ترجمة توجهات الإدارة الحالية في وقف الحرب، وعلى ما يبدو فإن المبعوث الأمريكي الذي يُكثِّف من تحركاته الدبلوماسية لإنفاذ ما سمَّاه مؤخراً مقترحاً معقولاً وعادلاً لوقف إطلاق النار في اليمن لا يتحرك مُنفرداً، وإنما يُنسَّق مع سفراء الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، ومع سفراء الاتحاد الأوروبي، لممارسة ضغوط أكبر على جميع الأطراف والدفع بقوة – كما قال ليندركينغ نفسه – باتجاه فتح الشرايين الاقتصادية والتوصل إلى “هدنة” في اليمن.
وبخصوص المبعوث الأممي الذي قد يَحِلُّ محل مارتن غريفيث، فلُم يعلن عن شخصٍ معين حتى الآن، وربما أن المداولات مستمرة بهذا الشأن.
ورغم تسريب أسماء كثيرة في الفترة الماضية كمرشحين لهذا المنصب، من بينها: المبعوث الأممي السابق إلى ليبيا غسان سلامة، والمبعوث السويدي إلى اليمن بيتر سيمنبي، وسفير الاتحاد الأوروبي لدى اليمن هانز غوندبرغ، وسفير اليابان السابق لدى اليمن كاتسو يوشي هياشي، ووزير الخارجية العماني السابق يوسف بن علوي، إلا أنه من الصعوبة توقُّع أو حسم أن يكون أحد هذه الأسماء هو البديل لغريفيث، ويُرجِّح بعض المحللين أنه قد يكون شخصية أوروبية غير بريطانية. وبصرف النظر عن جنسية المبعوث، فمن المهم أن يستفيد من أخطاء سابقيه، وتكون لديه شخصية قوية وخبرة عميقة بقضايا المنطقة، وله علاقات طيبة وواسعة بجميع الأطراف، حتى يعيد للأمم المتحدة بعضاً من الهيبة والمصداقية اللتين فقدتهما في الآونة الأخيرة.
وفي الوقت الراهن، وبالتزامن مع التقدُّم النسبي في محادثات فينا المتعلقة بالملف النووي الإيراني، والحراك السياسي والدبلوماسي الكبير الذي تشهده العاصمة العمانية مسقط بشأن الملف اليمني، وكذلك مراوحة معركة مارب مكانها، لا يُستبعَد التوصل إلى تفاهمات أولية حول بعض القضايا الإنسانية وتسهيل دخول السلع والمواد الغذائية والمشتقات النفطية عبر ميناء الحديدة، والفتح الجزئي لمطار صنعاء الدولي، ولعل التصريحات المختلفة التي صدرت من وزير الخارجية العماني، بدر البوسعيدي، في 28 مايو 2021، ومن مارتن غريفيث، ومن المتحدث الرسمي باسم جماعة الحوثي، تُشير إلى أجواء ايجابية تشهدها مسقط بخصوص الأزمة اليمنية؛ فالبوسعيدي غرَّد قائلاً: “أجريت محادثات جيدة مع ليندركينغ بشأن اليمن، نأمل أن نرى تدفقاً منتظماً للمساعدات الإنسانية والضروريات الأساسية إلى اليمن، ووقفاً دائماً لإطلاق النار. هذا هو الطريق لحل سياسي يقوم على الحوار والمفاوضات”.
أما المبعوث الأممي الذي نجح أخيراً في عقد لقاء مع وفد الحوثيين في مسقط وقيادتهم في صنعاء، فقد صدر بيان صحفي عن مكتبه أشار إلى أن غريفيث ناقش خطة الأمم المتحدة لفتح مطار صنعاء، ورفع القيود عن موانئ الحديدة لتعزيز حرية حركة الأفراد والسلع من وإلى اليمن، والتوصّل إلى وقف لإطلاق النار على مستوى البلاد، والتزام الأطراف بإعادة إطلاق عملية سياسية لإنهاء النزاع.
وقال غريفيث: “إن اجتماعاته الأخيرة تُظهِر، بالإضافة إلى الدعم الدولي والإقليمي المستمرين، أنه لا يزال بإمكان الأطراف اغتنام هذه الفرصة، وإحراز تقدّم نحو حلّ للنزاع”.
ومن جهته غرَّد المتحدث الرسمي باسم جماعة الحوثي، محمد عبدالسلام، بالقول إنه “خلال لقائه مع المبعوث الأممي وفريقه تم مناقشة الاتفاق الإنساني والعمل على تسريعه نظراً للوضع الإنساني الذي يعانيه الشعب اليمني جراء الحصار الظالم ومنع دخول المشتقات النفطية واغلاق المطارات وبما يمهد للدخول في نقاشات أوسع لوقف إطلاق نار دائم وتسوية سياسية شاملة”.
وبطبيعة الحال، فإن ما يلفت الانتباه في التطورات والتصريحات الأخيرة، حصول أمرين:
أولهما، تمكُّن غريفيث فجأة من لقاء وفد الحوثيين في مسقط، وبشكل علني، بعد فشل عدة محاولات طوال الفترة المنصرمة لعقد مثل هذا اللقاء، وهو الأمر الذي فتح الباب أمامه لزيارة العاصمة اليمنية صنعاء في 30 مايو الفائت، لأول مرة منذ أكثر من عام.
والأمر الثاني، تحدُّث الناطق باسم الحوثيين بلغة إيجابية مؤخراً تعكس نوعاً من التفاؤل والتجاوب مع المبعوث الأممي، أو بالأحرى مع المقترحات التي قدَّمها الأخير على خلاف معظم التصريحات السابقة لمحمد عبد السلام، ما يفتح الأبواب أمام احتمال تمكُّن الجهود الدولية الأخيرة، بالإضافة إلى الوساطة العمانية النَّشطة التي أرسلت أخيراً وفداً يُمثّلها إلى صنعاء لأول مرة منذ بدء الأزمة، من إحداث اختراق حقيقي في الملف اليمني في ظل الحديث عن مقترحات جديدة “معقولة وعادلة”، كما وصفها المبعوث الأمريكي، وهو ما دفع الحوثيين للقبول بها ربما.
وفي اتجاه مواز، ثمة تكهنات بأن التقارب الأمريكي الإيراني في ظل رغبة البلدين في العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، والحديث عن إمكانية حدوث تقارب سعودي-إيراني بعد عدة لقاءات استكشافية جمعت مسؤولين أمنيين من البلدين مؤخراً، قد بدأت تؤتي أوكلها وعلى نحوٍ قد ينعكس إيجاباً على الملف اليمني.
كما لا يُستبعَد أن هذه المؤشرات الإيجابية تأتي في إطار تلطيف الأجواء قُبيل جلسة مجلس الأمن المقبلة، وربما قبيل الإحاطة التي قد يدلى بها غريفيث كإحاطة أخيرة الشهر المقبل، يدعو فيها الأطراف لعقد اجتماع مباشر، كما أشار المبعوث نفسه في إحاطة 12 مايو الماضي، وتجنُّباً للمساءلة واتخاذ إجراءات أو خطوات في مجلس الأمن طالب بها المبعوث الأممي في نفس الإحاطة المشار إليها للضغط على جميع الأطراف، لاسيما جماعة الحوثي، وهذا من وجهة نظر بعض المحللين قد يُعقِّد الأمور أكثر ويُقوِّض فرص السلام في اليمن، لذا تطلَّب الوضع تخفيف حدة التوتر بين المبعوث الأممي والحوثيين على أمل أن تؤسس الإحاطة الأخيرة لغريفيث – إن تمَّت – لمسار سياسي لا يبدو أن الطريق إليه أو حتى الخوض في تفاصيله سيكون سهلاً بالنظر إلى تعقيدات الملف اليمني، وتشابكه بقضايا وملفات إقليمية ودولية أخرى، وهذا الترابُط “سلاحٌ ذو حدين”؛ فقد يكون مفيداً في حال حدوث تقدُّم في هذه الملفات، وقد يكون مضراً كلما تأزمت هذه الملفات، وضررها في الغالب أكثر من نفعها.
الخلاصة والاستنتاجات؛
يُمكِن عزو السبب المباشر لعدم مواصلة مارتن غريفيث مهمته الأساسية كوسيط أممي في اليمن إلى عدم قبول جماعة الحوثي مقابلته والجلوس معه لأشهر طويلة، كما أن هناك أسباب أخرى يُرجَّح أنها دفعت إلى “إبعاد” غريفيث عن منصبه في هذا التوقيت، أهمها: افتقاده لاستراتيجية أو رؤية واضحة للوصول إلى السلام؛ وعجْزه عن إحداث اختراق سياسي ملموس بين الأطراف؛ وتراجُع دوره على إثر تعيين الإدارة الأمريكية، تيموثي ليندركينغ، مبعوثاً خاصاً لها إلى اليمن، وكذلك بعد أن أظهر غريفيث نفسه، كما قيل، “اهتماماً بتولي مهمة أممية جديدة”.
وقد نتج عن هذا التطور، حصول أمرين لافتين مؤخراً: أولهما، تمكُّن غريفيث فجأة من لقاء وفد الحوثيين في مسقط علناً لأول مرة منذ أشهر عديدة قبل توجهه لزيارة العاصمة اليمنية صنعاء بعد انقطاعٍ دام أكثر من عام، وتزامن ذلك مع التقدُّم النسبي في محادثات فينا المتعلقة بالملف النووي الإيراني، والحراك السياسي والدبلوماسي الكبير الذي تشهده العاصمة العمانية مسقط بشأن الملف اليمني، وكذلك مراوحة معركة مارب مكانها. والأمر الثاني، تحدُّث رئيس الوفد التفاوضي للحوثيين بلغة إيجابية تعكس نوعاً من التفاؤل والتجاوب مع الوساطة الأممية عقب خروج غريفيث، ما يفتح الأبواب أمام احتمال تمكُّن الجهود الأمريكية والأوروبية الأخيرة، والوساطة العمانية النَّشطة، من إحداث اختراق حقيقي في الملف اليمني في ظل الحديث عن مقترحات جديدة “معقولة وعادلة”، كما وصفها المبعوث الأمريكي.
المصدر: مركز الإمارات للسياسات