السياسي اليمني الراحل جار الله عمر يروي قصة قيام الجمهورية اليمنية

منصة 26 سبتمبر- فيصل جلول

 

عملت في جهاز كلية الشرطة بعد التخرج من الكلية. تم اختياري مع مجموعة من زملائي من بينهم أحمد الآنسي، وهو الآن عميد في الشرطة ومحمد عبد السلام منصور، وهو أديب وكاتب وشاعر معروف، وضباط قدامى منهم حسين الثور وعبد الله الجسار. وكان من بين طلابنا الذين درسناهم الدكتور أحمد الصياد، سفير اليمن في اليونسكو.

تم اختيارنا من بين المتخرجين لنكون مدرسين وضباطا في الكلية. كنا مجموعة شابة نشيطة ونافذة. تمكنا من تنظيم منتسبين كثر في صفوف حركة القوميين العرب. كان علي السلال مديرا للكلية، ومن قادتها العميد حسن صالح الخولاني والمرحوم عبدالرحمن الحداد وأحمد الرحومي.

أسسنا مكتبة ونظمنا محاضرات للطلاب عن الوطنية والقومية، الأمر الذي لفت انتباه المصريين وبعض اليمنيين، فبدؤوا يشكون بنا، وبدأت تظهر ملامح الصراع بين البعث وحركة القوميين العرب والجبهة القومية في الجنوب. أسفر الشك بحزبيتنا عن فصلنا من كلية الشرطة وإرسالنا إلى الإدارة المدنية وإلى قطاع التموين تحديدا، كان ذلك في بداية العام 1966، ومن بعد رفضونا في التموين بسبب غياب الإدارة إلى أن أعادونا مجددا إلى الكلية كمدرسين.

شاركنا في الحرب الأهلية بين الملكيين والجمهوريين، وخرجنا مع بعض ضباط الشرطة ومنهم محمد عبدالسلام منصور ومجموعة أخرى إلى “بني حشيش”، وعسكرنا هناك خلال فترة من الوقت. قاتلنا في مواقع دفاعية ضد الملكيين. هم كانوا في جانب ونحن في جانب مواجه.

التحقت بحركة القوميين العرب عام 1962، نظمني العميد محمد محرم، وقد أصبح من قادة الجيش الحاليين بعد انسحابه من العمل الحزبي. تعارفنا في ذمار ثم تطورت علاقتنا في صنعاء، وسلمني يومها إلى مالك الإرياني ومن بعد إلى عبد الحافظ فايق، وأعطتنا الحركة تعليمات أن نلتحق بكلية الشرطة. كان التنافس بين الحركة والبعث على أشده في الجيش و أجهزة الأمن.

قسمت الحركة الشباب المنتمين إليها إلى قسم يلتحق بالأمن وآخر بالجيش في الكليات الجديدة التي افتتحت في صنعاء. كانت رتبتي في حركة القوميين العرب بداية عضو حلقة لمدة سنة، ثم رقيت إلى خلية، ثم صرت عضو مديرية إلى أن وصلت إلى قيادة صنعاء عام 1966. كان مسؤول قيادة الحركة مالك الإرياني وأحيانا أخرى عبدالله الأشطل أو علي مهدي الشنوان وعلي قعشة.

ثارت الشكوك مجددا حول حزبيتنا وفصلنا من العمل، لكننا بقينا في الشرطة بضمانة من محمد السلامي مدير المخابرات الذي نقلنا إلى مديريته. كانت المخابرات موجهة ضد الملكية ولكنها تلاحق أيضا الأحزاب بطلب من المصريين أو تحت تأثيرهم. سيتضح من بعد أن الجهاز بأكمله صار حزبيا؛ فنحن نظمنا ضباط المخابرات في العمل الحزبي، وفي لحظة من اللحظات اكتشفنا أن محمد السلامي نفسه كان حزبيا في اتحاد الشعب، ماركسي العقيدة، من جماعة باذيب وعبدالله صالح، ومن بين الحزبيين أيضا سلطان أمين القرشي رحمه الله، وكنت أنا وأحمد السلامي من حركة القوميين العرب.

كانت “المخابرات” عبارة عن مبنى يتقاسمه القوميون والبعثيون والماركسيون، كل يحاول أن يكسب ويستفيد من معلومات الجهاز، لكن كنا نحن الأكثر تأثيرا. ثم اندلعت مشكلة بين الجبهة القومية وحركة القوميين العرب من جهة والمخابرات المصرية من جهة أخرى. شاركنا في مظاهرات تأييد للسلال بتأثير من المصريين وضد معارضة مدينة خمر، التي كان يقودها الشيخ عبدالله الأحمر والبعثيون والشيوعيون. كنا ضدهم وكنا مع السلال. كنت مقتنعا بهذا الأمر وشاركنا بمظاهرات من قبل أيضا، عندما كنا في كلية الشرطة ضد اتفاقية السلام بين عبدالناصر والملك فيصل ومؤتمر خمر.

قامت حرب 1967 التي أدت إلى هزيمة الجيوش العربية في وقت قصير. شُكلِّتْ لجنة في المخابرات بقيادة المقدم محمد خميس رحمه الله، وكنت أنا وزملائي من القوميين العرب أعضاء فيها، طلب منا تقديم تقرير عن اتجاهات الرأي العام اليمني إزاء الهزيمة.

كان التقرير عبارة عن رأي ملخص لحركة القوميين العرب في الحرب، وأرسلت نسخة منه لقائد الجيش المصري في اليمن وأخرى إلى المشير عبدالله السلال، الذي غضب وقال؛ إن المجموعة كلها حزبية وهؤلاء يشتغلون مع القوميين العرب والجبهة القومية وهم معادون لمصر. لم نكن معادين لمصر على الإطلاق واشتركنا في مظاهرة لرفض استقالة جمال عبد الناصر، وكنا نبكي في الشوارع بعيد استقالته.

تعاطفنا مع عبدالناصر ورفضنا تصرفات المصريين والأجهزة في اليمن. التقرير الذي أعددناه لم يعدله محمد خميس وتقبله رئيس الإدارة محمد السلامي كما هو. تسبب التقرير بفصلنا جميعا من المخابرات بما في ذلك رئيس الإدارة محمد السلامي في أوائل تموز67 (يوليو)، وأغلقت الإدارة وذهبنا إلى بيوتنا، لكن رواتبنا لم تقطع.

بعد مؤتمر الخرطوم في آب (أغسطس) 1967 واتفاق الملك فيصل وجمال عبدالناصر حول سحب القوات المصرية من اليمن، وترك اليمنيين يحلون مشاكلهم بأنفسهم، أتت لجنة السلام العربية برئاسة محمد أحمد المحجوب رئيس وزراء السودان إلى اليمن، وقررت الأحزاب السياسية السرية وأبرزها حركة القوميين العرب والبعث والشيوعي، قررت أن تتصدى للجنة السلام بمظاهرة بعد اجتماع عقد في دار البشائر لمجموعة من الشخصيات والضباط الصغار وبعض المدنيين.

كنت ممن حضروا الاجتماع وأجمعنا على رفض اتفاقية الخرطوم تماما، وعندما أتت اللجنة خرجت مظاهرة كبيرة في صنعاء وتوجهنا جميعا إلى مقر القيادة، فتصدى لنا بعض الجنود ووقع اشتباك بالأيدي عند باب القيادة. من جهة ثانية كان بعض المسلحين اليمنيين المعارضين للجيش المصري متمترسين وراء سور القيادة، وأطلقوا النار على من فيها.

كنت شاهدا مباشرا على هذا الحادث الذي نجم عن احتكاك المتظاهرين بالمقر ورد المصريين بإطلاق النار بسبب خوفهم. كان إطلاق النار كثيفا وأكثر من اللازم، وسقط قتلى كثيرون من بينهم زميلي شايف القاضي، وقد سقط بجانبي. كنا مدنيين ومن دون بنادق. أدى الاشتباك إلى وقوع خسائر بين المتظاهرين فردت عليه قوات المظليين والصاعقة اليمنية بقتل عدد من الجنود المصريين في شوارع صنعاء، وكانت تلك مأساة كبيرة وما زالت تسبب لنا جرحا في الضمير حتى الآن.

عدد الجنود المصريين القتلى لا يزيد عن عشرة وعدد قتلى المتظاهرين لا يزيد عن ستة أشخاص. بعد ذلك انسحب المصريون إلى الحديدة وانطلقنا بمظاهرة جديدة إلى مقر السلال، فأقال الحكومة وشكل حكومة جديدة (حصلت هذه الحادثة في آب/ أغسطس 67 وقبل انقلاب 5 تشرين الثاني/ نوفمبر)، ولعل حركتنا هي التي مهدت الطريق لانقلاب 5 تشرين الثاني (نوفمبر) من دون أن ندري. هذا الانقلاب أطاح بالمشير عبدالله السلال وتعيين القاضي عبد الرحمن الإرياني رئيسا للجمهورية.

كنا في هذه المرحلة نواجه كل مناهضي السلال، ولكننا لم نقف ضد القاضي الإرياني علنا، فهو كان حصيفا في خطابه وكلامه، وكانت لنا علاقة جانبية معه من خلال ابنه يحيى الإرياني الذي كان عضوا في القيادة معنا، ومن خلال عبدالقادر سعيد الذي يعدّ القائد المحنك في الحزب الديمقراطي وفي حركة القوميين العرب. لكن قبل الحديث عن الإرياني، لا بد من الإشارة إلى مفهومنا للملكية والجمهورية.

الإمامة الملكية

كنت في البداية أنظر إلى الإمام ككل الناس بوصفه إماما للمسلمين ويحكم بشرع الله، فضلا عن نسبه وفقهه واختياره من طرف العلماء. بدأت أشكك بمشروعية الإمامة في المراحل النهائية من دراستنا في صنعاء، وتحت تأثير زملائنا الأكبر سنا، ناهيك عن أشعار عبدالله البردوني ومحمود الزبيري وعبد العزيز المقالح، الذي كان يخاطبنا من إذاعة صنعاء. كانت الثورة المصرية قد بدأت تؤثر فينا، وكنا معجبين بشخصية جمال عبدالناصر، في هذا السياق يجب فهم تطورات تلك الفترة.

عشت بوادر الثورة الأولى عندما أخبرني عبد الكريم السماوي أحد زملائي في كلية الشرطة قبل خلع النظام بأسبوع، أنه يعلم بأن الإمام أحمد قد مات في تعز وسيدفن في صنعاء وعند دفنه ستقوم الثورة. لكن أتت الجنازة ولم تقم الثورة إلا بعد أسبوع من دفنه، وكنت في صنعاء في المدرسة العلمية على بعد عشرين مترا من قصر البشائر الذي يسكن فيه الإمام البدر.

ثورة 26 سبتمبر

كانت مشاعري حينذاك مزيجا من الأمل والخوف من فشل الثورة. الثامنة صباحا جاءتنا مجموعة من الضباط إلى داخل المدرسة العلمية المتوسطة، وقالوا افتحوا الراديو، وإذ بالإذاعة تبث نداء: “هنا الجمهورية العربية اليمنية”، وتشن هجوما على الإمامة. خرج زملاؤنا من السجن وساندنا الثورة. ومن المشاهد المؤثرة في ذاكرتي، أن بعض زملائي أصيبوا بالانهيار عندما أذيع نبأ اندلاع الثورة، ولا أريد أن أذكر أسماء.

كنا نراقب الاشتباك من المدرسة ونرشد الثوار إلى جنود الإمام الهاربين. رأينا طبيبا معه مجموعة، خرجوا من أحد القصور وألقوا بترولا على دبابة بمواجهة قصر البشائر، فاحترقت وقتل من فيها وصار “العكفة” (الحراس والمرافقون) يقولون عاش الإمام، فارتعبنا وانطلق الرصاص على المكان الذي كنا فيه؛ أصيب أحد زملائنا ويدعى ابن مفضل بساقه، وأخذ ينزف دما دون أن نعرف كيف نساعده وتوفي بين أيدينا، واستمرت “المقاومة” من القصور الملكية إلى ما قبل الظهر.

معنى الجمهورية

لم يكن معنى الجمهورية واضحا في وعينا، كنا نعتقد أننا بحاجة لجمهورية مثل مصر، وأن تطبيق النظام المصري في اليمن يعني إنشاء طرقات وعلم ومدارس وجيش. المفاهيم النظرية للملكية والجمهورية ما كانت منتشرة في صفوفنا حينذاك.

كان اسم علي عبد المغني مخطط الانقلاب متداولا في صفوفنا في حال قيام ثورة عسكرية في اليمن، وأنه سيكون رئيسها إضافة إلى ثلاثة آخرين هم حمود الجائفي وعبدالله السلال وعبدالله الضبي. كنت أعرف علي عبد المغني شخصيا، فهو من منطقتنا لكن لم يكن واضحا لي أنه المحرك. سنعرف من بعد أن عبد المغني ومحمد مظهر ،نظما الضباط الصغار من دون أن نهمل دور الضباط القدامى، ومن بينهم عبد الله جزيلان وحسن العمري، ومن المدنيين محمد الفسيل والشاعر عبد العزيز المقالح، وهو المدني الوحيد المعروف بعلاقاته السابقة مع ضباط الثورة.

انقلاب 5 نوفمبر

لم يستقر النظام الجمهوري على حال. وقعت سلسلة من الانقلابات في صنعاء. أشرت من قبل إلى انقلاب 5 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1967 في أثناء زيارة المشير عبد السلال للعراق. كانت الحكومة المعتقلة في القاهرة (اعتقلت المخابرات المصرية أعضاء الحكومة اليمنية أواخر 1966 ممن جاؤوا إلى القاهرة للاحتجاج على السلال، وكان القاضي عبد الرحمن الإرياني من بين المعتقلين) قد عادت إلى صنعاء. وحَضّرتْ علنا للانقلاب الذي ساهمت فيه قوات الجيش اليمني.

كنا في حركة القوميين العرب معارضين لهذا الانقلاب، وهذا كلام للتاريخ. كان السلال بالنسبة لنا الرجل الأول المسؤول عن النظام الجمهوري والرجل الطيب، وكنا نعدّ أن من يعارضه ويعارض المصريين كمن يعمل لإسقاط النظام الجمهوري.

اجتمعنا في منزل علي قشعة بعد ظهر يوم 4 تشرين الثاني (نوفمبر)، وكان معروفا لدينا أمر الانقلاب؛ لأن الضباط أبلغونا بأنهم أمروا بالاستعداد، وكان نفوذنا كبيرا في الجيش والشرطة لصد الانقلاب والتعاون مع حرس السلال والقبائل المؤيدة له. اتصلنا لهذا الغرض بالأخ أحمد قاسم دماج وكان من القوميين العرب. كنا نأمل أن يتصل ببعض قبائل بكيل المؤيدين للسلال واتصلنا بالعميد محمد القواس قائد حرس السلال لمساندتنا، وأرسلنا ضباطا إلى كتيبة الدبابات التي كانت متمركزة في الروضة بجانب كلية الشرطة للاستيلاء عليها، فوصل الضباط ووجدوا أن الانقلابيين موجودون فيها فعادوا من حيث أتوا. وعند المساء تراجع القواس وحرس السلال عن المشاركة في صد الانقلاب.

أبلغنا كل ضباط القوميين العرب ألا يصطدموا بالانقلابيين طالما أن وسائل إفشال الانقلاب ما عادت متوفرة. كانت لدينا كتيبة أمن مركزي مسيطرة على الإذاعة بقيادة علي قاسم بلعيد، وهو ضابط سابق في الشرطة ومغترب في أمريكا اليوم والمرحوم محمد السامعي الذي قتل من بعد في أثناء الانفصال. أبلغتهم قبيل الانقلاب بساعات بالامتناع عن كشف أنفسهم، ومن بينهم يحيى المراغي، الذي كانت دبابته أول دبابة تدخل الإذاعة.

قررنا أن تختفي قيادة حركة القوميين العرب وأن يمتنع ضباط الجيش عن التحرك، واكتفينا بمجابهة الانقلاب دعائيا في ذلك اليوم. أذكر أننا كنا أول من أطلق عليه وصف “انقلاب 5 نوفمبر الرجعي”، وأذكر أن الحركة الوطنية كانت منقسمة في هذا المجال. فالقوميون العرب والناصريون والشيوعيون كانوا ضد الانقلاب، وكان البعث مؤيدا له إلى أن اكتشف بعض قادته من بعد أن المشايخ والقوى التقليدية هي التي تسيطر على السلطة وليس هم، فانسحبوا من التحالف ثم عدنا وتحالفنا مع المنسحبين من جديد وصرنا حزبا واحدا.

حصار السبعين يوما

كنت في مدينة الحديدة عندما بدأ حصار السبعين يوميا (من 28 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1967 حتى 7 شباط / فبراير عام 1968). كنت يومها مازلت مفصولا من العمل وذهبت مع الشهيد عبدالسلام الدميني، وكان رحمه الله ضابطا شهما من زملائنا في كلية الشرطة، إلى مدينة الحديدة في إجازة غير مقصودة. التقينا هناك بمحمد الفقيه قائد المنطقة، قال لنا إن طريق الحديدة ـ تعز قد قطعت في منطقة اسمها الكوكر، وكانت طريقا حيوية جدا، أدى قطعها إلى أن نبقى شهرا في هذه المنطقة وقد ساهمنا في فتح الطريق، الدميني وأنا و عبدالعزيز الطرفي الذي كان قائدا لكتيبة المدرعات في ذلك المكان، وأصبح بعد ذلك رئيسا للأركان.

في أثناء عملنا على فتح الطريق، استمعنا إلى استقالة حكومة محسن العيني وتسلم الفريق حسن العمري السلطة، وعلمنا بأن طريق صنعاء ـ الحديدة قد قطعت أيضا، وطلب منا أن نعود فورا بواسطة طائرة سوفييتية قديمة من نوع اليوشن. عدنا، وخلال أيام طوقت العاصمة من كل مكان. كنت أسكن في شارع جمال عبدالناصر والشارع مازال موجودا، وقد حاولوا تغيير اسمه لكن الناس رفضوا التغيير.

حصل نزاع خلال الحصار بين الطلاب والضباط في كلية الشرطة، وكان على رأسهم حسن الخولاني والمرحوم محمد خميس وآخرون، اتهم الطلاب محمد خميس بأنه متراخ في التصدي للمحاصرين. اتصل بنا وزير الداخلية عبدالله بركات وطلب أن نعود إلى الشرطة، ومنها وخرجنا إلى مطار الرحبة للقتال مع دفعتين من الطلاب. كنت من ضمن الضباط الذين قادوا الطلاب الموجودين في المطار دفاعا عن المطار، وكان معنا علي الواسعي وعبدالرحمن الحداد رحمهما الله، ويحيى الشامي وهو مازال حيا. كان قائدنا حسن صالح الخولاني الذي مازال بصحة طيبة، ومعنا أيضا الضابط محمد الآنسي الذي تخرج لاحقا وقد توفي، وعبد الله العلفي الذي جرح وكان بطلا من أبطال المطار، ومحمد البروي وآخرون.

تفاصيل هذه التجربة موجودة في كتابي “القيمة التاريخية لحصار صنعاء”. كانت أيام المطار قاسية وصعبة. ضرب المطار بقوة وأوقفت حركة الطيران ولم يعد مطارا بعد أن تحول إلى خط دفاعي عن صنعاء. وكان معنا محمد محرم من الجيش في نوبة رقمها 85 وأيضا أحمد عبدالوهاب الآنسي في الأزرقين. كل الذين كانوا معنا في المطار كانوا من الشرطة والجيش والمظلات والصاعقة، ولم أشاهد قبائل في هذا الموقع. كان للصاعقة الدور الأساسي في هذه العملية. أقمنا في المطار مواقع تحت الأرض.

قبل عملية المطار جلسنا أسابيع في صنعاء، وكنا نخوض بعض المعارك مثل معركة خط الدارس الشديدة، وقد ساهم فيها الطيران السوري. وخرجنا مرة مع حسن العمري إلى “تنام” لكننا هزمنا هناك ورجعنا إلى صنعاء. تحول الضباط يومها إلى جنود بسبب قلة العديد.

حسن العمري بطل الدفاع عن صنعاء

يمكنني القول إن الفريق حسن العمري رئيس الوزراء في حينه كان بطل فك الحصار، لكنه كان قاسيا مع خصومه في النظام الجمهوري، وكانت تصرفاته تنطوي على شيء من الحمق والانفعال. وأقول رب ضارة نافعة، فقد خرجنا من السجن بسبب قتل حسن العمري لأحد المصورين. قبل ذلك كان العمري قد أقسم يمينا بأننا لن نخرج من السجن. أما عن قتل المصور، فقد نجم عن تداخل تلفون العمري تقنيا مع تلفون المصور محمد الحرازي، فقال له العمري: أوقف التلفون. فقال له: من أنت؟ فأجابه: من أنت؟ عرف أنه الحرازي وأنه تعمد أن يؤذيه، فطلبه إلى ميدان التحرير بقرب وزارة المواصلات سابقا، وضربه هناك بقضيب من حديد حتى قضى نحبه، ورحل العمري إلى القاهرة. استقال من رئاسة الوزراء واعتبرت الاستقالة بمنزلة نهاية للموضوع. كان من الصعب أن يبقى العمري رئيسا للوزراء بعد القتل، وهذه كانت المرة الأولى التي يقتل فيها رئيس الوزراء مواطنا.. كان أحمقا طيلة حياته!

كان العمري البطل الأول في فك الحصار عن صنعاء وعبد الرقيب عبد الوهاب الثاني والشيخ عبدالله الأحمر كان مساهما في فك الحصار، وكذلك مجاهد أبو شوارب وعبداللطيف ضيف الله وسنان أبو لحوم في الحديدة، وكان محمد الإرياني مساهما في تعز. ومن أبطال فك الحصار أحمد عبد ربه العواضي وعبد الرحمن الإرياني بسياسته الذكية وآخرون. ولن ننسى الدعم الخارجي الروسي بالذخائر والطيران والمعدات والطيران السوري، وحتى جمال عبدالناصر فقد أرسل إلينا الذخائر الخاصة بالبنادق الألمانية التي كنا نبحث عنها، والجزائر أرسلت لنا مليون دولار. الدور الأول في فك الحصار كان للصاعقة والمظلات والمقاومة الشعبية وليس للقبائل. كان للقبائل من الحدا وحاشد وبعض القبائل الأخرى دورها، لكن الدفاع عن صنعاء كان معقودا للقوى المذكورة أعلاه.

انتهى الحصار وعدنا إلى صنعاء، وتجدد الخلاف بين البعث والقوميين العرب من جهة والقوى التقليدية وفيها العمري والضباط الصغار من جهة أخرى، وتميزت تلك الفترة بدور مهم لعبد الرقيب عبد الوهاب قائد قوات الصاعقة، ورئيس الأركان الشاب الذي دافع ببسالة عن صنعاء مع فريق من الضباط الشبان صغار السن.

يومها حصل خلاف على قوة الدبابات التي وردت من الاتحاد السوفييتي إلى الحديدة، واختلطت في الخلاف عناصر كثيرة؛ من بينها ضباط الجيل الجديد ضد ضباط الجيل القديم، والبعث ضد حركة القوميين العرب، واليسار الجمهوري المتشدد مع اليسار المعتدل، وهنا شاعت أخبار حول مفاوضات بين الجمهوريين والملكيين، وكان الرد على هذه المفاوضات عبر تغيير قيادات الأسلحة وحل المقاومة الشعبية بقرار من حسن العمري. واندلعت اشتباكات في صنعاء هزم فيها الطرف الشبابي ممثلا بحركة القوميين العرب، واغتيال البطل عبد الرقيب عبدالوهاب.

اعتقلنا نحن الضباط الصغار ودخلنا إلى السجن ومكثنا فيه من آب (أغسطس) 68 إلى أيلول (سبتمبر) 71. وأريد أن أذكر واقعة مهمة، وهي أنه قبل اندلاع أحداث آب (أغسطس) بشهرين أو ثلاثة، كان قد حصل تحول في حركة القوميين العرب نحو اليسار في سياق صراع فكري، ثم عقدنا مؤتمرا في العبوس في مدينة تعز وحللنا الحركة سريا، وكانت الجبهة القومية قد استولت على السلطة في عدن.

هذا الحدث، أثر فينا أيضا فحللنا الحركة في الجمهورية العربية اليمنية، واعتبرنا أن الجبهة القومية هي التنظيم الحاكم في الجنوب، ونحن تحولنا إلى معارضة الجبهة القومية تحت اسم الحزب الديمقراطي الثوري اليمني الذي أسسناه لاحقا، وانتخبت عضوا في لجنته المركزية وعمري 22 أو 23 عاما. حصل هذا في العام 1968.

نقلا عن “عربي 21”.

#منصة_26_سبتمبر

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى